فصل: تفسير الآيات (58- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالنطفة كانت قبل الانفصال حية، ثم صارت ميتة ثم أحياها الله تعالى مرة أخرى فاعلموا أنما إذا خلقناكم أولًا ثم قدرنا بينكم الموت ثانيًا ثم ننشئكم مرة أخرى فلا تستبعدوا ذلك كما في النطف.
المسألة الثانية:
ما الفرق بين هذا الموضع وبين أول سورة تبارك حيث قال هناك: {خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] بتقديم ذكر الموت؟ نقول: الكلام هنا على الترتيب الأصلي كما قال تعالى في مواضع منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ} [المؤمنون: 15] وأما في سورة الملك فنذكر إن شاء الله تعالى فائدتها ومرجعها إلى ما ذكرنا أنه قال: خلق الموت في النطف بعد كونها حية عند الاتصال ثم خلق الحياة فيها بعد الموت وهو دليل الحشر، وقيل: المراد من الموت هنا الموت الذي بعد الحياة، والمراد هناك الذي قبل الحياة.
المسألة الثالثة:
قال ههنا: {نَحْنُ قَدَّرْنَا} وقال في سورة الملك: {خَلَقَ الموت والحياة} فذكر الموت والحياة بلفظ الخلق، وههنا قال: {خلقناكم} وقال: {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} فنقول: كان المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين مطلقًا لا في الناس على الخصوص، وهنا لما قال: {خلقناكم} [الواقعة: 57] خصصهم بالذكر فصار كأنه قال: خلقنا حياتكم، فلو قال: نحن قدرنا موتكم، كان ينبغي أنه يوجد موتهم في الحال ولم يكن كذلك، ولهذا قال: {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ} وأما هناك فالموت والحياة كانا مخلوقين في محلين ولم يكن ذلك بالنسبة إلى بعض مخصوص.
المسألة الرابعة:
هل في قوله تعالى: {بَيْنَكُمْ} بدلًا عن غيره من الألفاظ فائدة؟ نقول: نعم فائدة جليلة، وهي تبين بالنظر إلى الألفاظ التي تقوم مقامها فنقول: قدرنا لكم الموت، وقدرنا فيكم الموت، فقوله: قدرنا فيكم يفيد معنى الخلق لأن تقدير الشيء في الشيء يستدعي كونه ظرفًا له إما ظرف حصول فيه أو ظرف حلول فيه كما يقال: البياض في الجسم والكحل في العين، فلو قال: قدرنا فيكم الموت لكان مخلوقًا فينا وليس كذلك، وإن قلنا: قدرنا لكم الموت كان ذلك ينبىء عن تأخره عن الناس فإن القائل إذا قال: هذا معد لك كان معناه أنه اليوم لغيرك وغدًا لك، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} [آل عمران: 140].
المسألة الخامسة:
قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} المشهور أن المراد منه: وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، يقال: فاته الشيء إذا غلبه ولم يقدر عليه ومثله سبقه وعلى هذا نعيد ما ذكرناه من الترتيب، ونقول: إذا كان قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ} لبيان أنه خلق الحياة وقدر الموت، وهما ضدان وخالق الضدين يكون قادرًا مختارًا فقال: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} عاجزين عن الشيء بخلاف الموجب الذي لا يمكنه من إيقاع كل واحد من الضدين فيسبقه ويفوته، فإن النار لا يمكنها التبريد لأن طبيعتها موجبة للتسخين، وأما إن قلنا بأنه ذكره ردًا عليهم حيث قالوا: لو لم يكن الموت من فناء الرطوبات الأصلية وانطفاء الحرارة الغريزية وكان بخلق حكيم مختار ما كان يجوز وقوعه لأن الحكيم كيف يبني ويهدم ويوجد ويعدم فقال: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي عاجزين بوجه من الوجوه التي يستبعدونها من البناء والصائغ فإنه يفتقر في الإيجاد إلى زمان ومكان وتمكين من المفعول وإمكان ويلحقه تعب من تحريك وإسكان والله تعالى يخلق بكن فيكون، فهو فوق ما ذكرنا من المثل من قطع النظر وإعادته في أسرع حين حيث لا يصح من القائل أن يقول: لم قطعت النظر في ذلك الزمان اللطيف الذي لا يدرك ولا يحس بل ربما يكون مدعى القدرة التامة على الشيء في الزمان اليسير بالحركة السريعة يأتي بشيء ثم يبطله ثم يأتي بمثله ثم يبطله يدلك عليه فعل أصحاب خفة اليد، حيث يوهم أنه يفعل شيئًا ثم يبطله، ثم يأتي بمثله إراءة من نفسه القدرة، وعلى هذا فنقول قوله في سورة تبارك:
{خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك: 2] معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار، فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه موجبًا لما عملتم شيئًا على هذا التفسير المشهور، والظاهر أن المراد من قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} حقيقته وهي أنا ما سبقنا وهو يحتمل شيئين أحدهما: أن يكون معناه أنه هو الأول لم يكن قبله شيء وثانيهما: في خلق الناس وتقدير الموت فيهم ما سبق وهو على طريقة منع آخر وفيه فائدتان أما إذا قلنا: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} معناه ما سبقنا شيء فهو إشارة إلى أنكم من أي وجه تسلكون طريق النظر تنتهون إلى الله وتقفون عنده ولا تجاوزونه، فإنكم إن كنتم تقولون: قبل النطفة أب وقبل الأب نطفة فالعقل يحكم بانتهاء النطف والآباء إلى خالق غير مخلوق، وأنا ذلك فإني لست بمسبوق وليس هناك خالق ولا سابق غيري، وهذا يكون على طريقة التدرج والنزول من مقام إلى مقام، والعاقل الذي هداه الله تعالى الهداية القوية يعرف أولًا والذي دونه يعرف بعد ذلك برتبة، والمعاند لابد من أن يعرف إن عاد إلى عقله بعد المراتب، ويقول: لابد للكل من إله، وهو ليس بمسبوق فيما فعله، فمعناه أنه فعل ما فعل، ولم يكن لمفعوله مثال، وأما إن قلنا: إنه ليس بمسبوق، وأي حاجة في إعادته له بمثال هو أهون فيكون كقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ويؤيده قوله تعالى: {على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم وَنُنشِئَكُمْ في مَا لا تَعْلَمُونَ} فإن قيل: هذا لا يصح، لأن مثل هذا ورد في سؤال سائل، والمراد ما ذكرنا كأنه قال: وإنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وما نحن بمسبوقين، أي لسنا بعاجزين مغلوبين فهذا دليلنا، وذلك لأن قوله تعالى: {إِنَّا لقادرون} أفاد فائدة انتفاء العجز عنه، فلابد من أن يكون لقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فائدة ظاهرة، ثم قال تعالى: {على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} في الوجه المشهور، قوله تعالى: {على أَن نُّبَدّلَ} يتعلق بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي على التبديل، ومعناه وما نحن عاجزين عن التبديل.
والتحقيق في هذا الوجه أن من سبقه الشيء كأنه غلبه فعجز عنه، وكلمة على في هذا الوجه مأخوذة من استعمال لفظ المسابقة فإنه يكون على شيء، فإن من سبق غيره على أمر فهو الغالب، وعلى الوجه الآخر يتعلق بقوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا} وتقديره: نحن قدرنا بينكم على وجه التبديل لا على وجه قطع النسل من أول الأمر، كما يقول القائل: خرج فلان على أن يرجع عاجلًا، أي على هذا الوجه خرج، وتعلق كلمة على هذا الوجه أظهر، فإن قيل: على ما ذهب إليه المفسرون لا إشكال في تبديل أمثالكم، أي أشكالكم وأوصافكم، ويكون الأمثال جمع مثل، ويكون معناه وما نحن بعاجزين على أن نمسخكم، ونجعلكم في صورة قردة وخنازير، فيكون كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم على مكانتهم} [يس: 67] وعلى ما قلت في تفسير المسبوقين، وجعلت المتعلق لقوله: {على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} هو قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا} فيكون قوله: {نُّبَدّلَ أمثالكم} معناه على أن نبدل أمثالهم لا على عملهم، نقول: هذا إيراد وارد على المفسرين بأسرهم إذا فسروا الأمثال بجمع المثل، وهو الظاهر كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم} [محمد: 38] وقوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28] فإن قوله: {إِذَا} دليل الوقوع، وتغير أوصافهم بالمسخ ليس أمرًا يقع والجواب أن يقال: الأمثال إما أن يكون جمع مثل، وإما جمع مثل، فإن كان جمع مثل فنقول معناه قدرنا بينكم الموت على هذا الوجه، وهو أن نغير أوصافكم فتكونوا أطفالًا، ثم شبانًا، ثم كهولًا، ثم شيوخًا، ثم يدرككم الأجل، وما قدرنا بينكم الموت على أن نهلككم دفعة واحدة إلا إذا جاء وقت ذلك فتهلكون بنفخة واحدة وإن قلنا: هو جمع مثل فنقول معنى: {نُّبَدّلَ أمثالكم} نجعل أمثالكم بدلًا وبدله بمعنى جعله بدلًا، ولم يحسن أن يقال: بدلناكم على هذا الوجه، لأنه يفيد أنا جعلنا بدلًا فلا يدل على وقوع الفناه عليهم، غاية ما في الباب أن قول القائل: جعلت كذا بدلًا لا تتم فائدته إلا إذا قال: جعلته بدلًا عن كذا لكنه تعالى لما قال: {نُّبَدّلَ أمثالكم} فالمثل يدل على المثل، فكأنه قال: جعلنا أمثالكم بدلًا لكم، ومعناه على ما ذكرنا أنه لم نقدر الموت على أن نفني الخلق دفعة بل قدرناه على أن نجعل مثلهم بدلهم مدة طويلة ثم نهلكهم جميعًا ثم ننشئهم، وقوله تعالى: {فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} على الوجه المشهور في التفسير أنه فيما لا تعلمون من الأوصاف والأخلاق، والظاهر أن المراد: {فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} من الأوصاف والزمان، فإن أحدًا لا يدري أنه متى يموت ومتى ينشأ أو كأنهم قالوا: ومتى الساعة والإنشاء؟ فقال: لا علم لكم بهما، هذا إذا قلنا: إن المراد ما ذكر فيه على الوجه المشهور وفيه لطيفة: وهي أن قوله: {فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} تقرير لقوله: {أأنتم تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 59] وكأنه قال: كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وكيف يكون خالق الشيء غير عالم به؟ وهو كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أمهاتكم} [النجم: 32] وعلى ما ذكرنا فيه فائدة وهي التحريض على العمل الصالح، لأن التبديل والإنشاء وهو الموت والحشر إذا كان واقعًا في زمان لا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} تقريرًا لإمكان النشأة الثانية.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)}.
ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله: {أَفَرَأيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} إشارة إلى دليل الخلق وبه الابتداء، وقوله: {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} إشارة إلى دليل الرزق وبه البقاء، وذكر أمورًا ثلاثة المأكول، والمشروب، وما به إصلاح المأكول، ورتبه ترتيبًا فذكر المأكول أولًا لأنه هو الغذاء، ثم المشروب لأن به الاستمراء، ثم النار للتي بها الإصلاح وذكر من كل نوع ما هو الأصل، فذكر من المأكول الحب فإنه هو الأصل، ومن المشروب الماء لأنه هو الأصل، وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية وأعمها، ودخل في كل واحد منها ما هو دونه، هذا هو الترتيب، وأما التفسير فنقول: الفرق بين الحرث والزرع هو أن الحرث أوائل الزرع ومقدماته من كراب الأرض، وإلقاء البذر، وسقي المبذور، والزرع هو آخر الحرث من خروج النبات واستغلاظه واستوائه على الساق، فقوله: {أَفَرَأيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} أي ما تبتدئون منه من الأعمال أأنتم تبلغونها المقصود أم الله؟ ولا يشك أحد في أن إيجاد الحب في السنبلة ليس بفعل الناس، وليس بفعلهم إن كان سوى إلقاء البذر والسقي، فإن قيل: هذا يدل على أن الله هو الزارع، فكيف قال تعالى: {يُعْجِبُ الزراع} [الفتح: 29] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الزرع للزارع» قلنا قد ثبت من التفسير أن الحرث متصل بالزرع، فالحرث أوائل الزرع، والزرع أواخر الحرث، فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر، لكن قوله: {يُعْجِبُ الزراع} بدلًا عن قوله: يعجب الحراث، يدل على أن الحارث إذا كان هو المبتدي، فربما يتعجب بما يترتب على فعله من خروج النبات والزارع لما كان هو المنتهي، ولا يعجبه إلا شيء عظيم، فقال: {يُعْجِبُ الزراع} الذين تعودوا أخذ الحراث، فما ظنك بإعجابه الحراث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الزرع للزارع» فيه فائدة، لأنه لو قال: للحارث فمن ابتدأ بعمل الزرع وأتى بكراب الأرض وتسويتها يصير حارثًا، وذلك قبل إلقاء البذرة لزرع لمن أتى بالأمر المتأخر وهو إلقاء البذر، أي من له البذر على مذهب أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وهذا أظهر، لأنه بمجرد الإلقاء في الأرض يجعل الزرع للملقى سواء كان مالكًا أو غاصبًا.
{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}.
وهو تدريج في الإثبات، وبيانه هو أنه لما قال: {أأنتم تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون} [الواقعة: 64] لم يبعد من معاند أن يقول: نحن نحرث وهو بنفسه يصير زرعًا، لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا، فقال تعالى: ولو سلم لكم هذا الباطل هذا الباطل، فما تقولون في سلامته عن الآفات التي تصيبه، فيفسد قبل اشتداد الحب وقبل انعقاده، أو قبل اشتداد الحب وقبل ظهور الحب فيه، فهل تحفظونه منها أو تدفعونها عنه، أو هذا الزرع بنفسه يدفع عن نفسه تلك الآفات، كما تقولون: إنه بنفسه ينبت، ولا يشك أحد أن دفع الآفات بإذن الله تعالى، وحفظه عنها بفضل الله، وعلى هذا أعاده ليذكر أمورًا مرتبة بعضها على بعض فيكون الأمر الأول: للمهتدين والثاني: للظالمين والثالث: للمعاندين الضالين فيذكر الأمر الذي لا شك فيه في آخر الأمر إقامة للحجة على الضال المعاند.